طوفان الأقصى- إلهام الأمة نحو التحرير ومواجهة المشروع الصهيوني

لقد مثّلت معركة "طوفان الأقصى" إلهامًا فريدًا للأمتين العربية والإسلامية، مؤكدةً إمكانية دحر المشروع الصهيوني الخبيث وإنهاء الاحتلال الغاشم.
لقد كان تفاعل الشعوب العربية والإسلامية عارمًا، إذ ترسخت القناعة الراسخة بأن المقاومة هي السبيل الأمثل، وأن المشروع الإسلامي لفلسطين هو الخلاص، وتأكدت مكانة القدس الشريف كقلب نابض للأمة، موحدةً شعوبها وأطيافها وأعراقها، وموجهةً بوصلتها نحو العدو المشترك، ألا وهو العدو الصهيوني الذي يعادي نهضتها ووحدتها، ورافعةً لشأن من يخدمها ويعمل من أجلها، وفاضحةً لمن يتخاذل ويتعامل مع عدوها.
لقد وجّهت هذه المعركة ضربة قاصمة لمشروع التطبيع الآثم، وأثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أنه لا يمكن تجاوز الشعب الفلسطيني العظيم، ولا يمكن تهميش قضيته العادلة، ولا يمكن إغلاق ملفها وفقًا للمخططات الصهيونية الخبيثة.
استحقاقات المعركة والمرحلة
هناك إجماع واسع على أن ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، يوم انطلاق المعركة المظفرة، يختلف اختلافًا جذريًا عما قبله، وأنه منعطف تاريخي لا مثيل له. حتى العدو الإسرائيلي نفسه أدرك مغزى هذه المعركة التي حطمت أسس نظريته الأمنية الزائفة، وقوضت دوره الوظيفي المزعوم، والأساس الذي قام عليه وجوده كـ"ملاذ آمن" لليهود الصهاينة، وكحصن متقدم للإمبريالية الغربية، وكشرطي للمنطقة.
لذا، تحدث قادته عن "حرب الاستقلال الثانية"، وشنوا حملة شعواء مسعورة على قطاع غزة الصامد، في محاولة يائسة لاستعادة بعض من هيبتهم المتآكلة، واستعادة الثقة بمبرر وجودهم ودورهم الوظيفي المشبوه في المنطقة.
لقد أدت معركة "طوفان الأقصى" المباركة إلى إرباك المشروع الأمريكي الصهيوني الرامي إلى الهيمنة على المنطقة، وطمس هويتها وتراثها، وتقويض مشروعها الحضاري. كما أنها منحت فرصة ذهبية للقوى النهضوية في المنطقة لتولي زمام المبادرة، واستعادة عافية الأمة ودورها الريادي.
وعلى هذا الأساس، يمكننا فهم وجود تحالف دولي غربي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، يساند الصهاينة في عدوانهم الغاشم على غزة، والذي لا يهدف فقط إلى إخضاع قطاع غزة المحاصر، بل يطمح أيضًا إلى "ترويض" الأمة بأسرها، واقتلاع جذور الجهاد من نفوس أبنائها، ومحاربة التيارات الإسلامية والوطنية الصادقة، وإفساد مجتمعاتها، وإدخال المنطقة في الحقبة الإسرائيلية – الأمريكية المزعومة.
لذا، وبغض النظر عن نتيجة الحرب على غزة الأبية، فإن الأمة قد وجدت نفسها مدفوعة قسرًا لتحمل مسؤولياتها الجسام، بعد أن فرضت المعركة استحقاقاتها عليها. فإذا صمدت غزة وانتصرت، فتلك بشائر النصر المؤزر، والعد التنازلي لنهاية المشروع الصهيوني البغيض. وكما صرح وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، فإنه إذا لم يتمكن الجيش من تدمير قدرات حماس بشكل كامل، "فلن نتمكن من العيش في إسرائيل".
وبالتالي، يأتي استحقاق مشاركة الأمة الفاعلة في مشروع التحرير الشامل. وإذا ما سيطر الصهاينة على القطاع، فإن استهداف الأمة وتياراتها الإسلامية والوطنية والنهضوية سيكون المحطة التالية، مما يستدعي مواجهة هذا الاستهداف بكل قوة وعزيمة. أي أن الدور الجوهري للأمة سيكون استحقاقًا مفروضًا عليها، سواء أحبت قوى الإصلاح والتغيير ذلك أم كرهت.
وهذا يذكرنا بقوله تعالى: "وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ" سورة الأنفال: 7.
لذا، لم يعد يجدي الانفعال العاطفي الموسمي، بل إن مواجهة العدو الصهيوني أصبحت ضرورة ملحة، وواجبًا مستحقًا، وأولوية قصوى.
نحو عمل منهجي مستمر
إن أحد أبرز التحديات التي تواجه الأمة هو كيفية تحقيق تفاعل منهجي مستمر ومتصاعد، يتناسب مع عظمة التحدي وخطورة المعركة.
فقد اعتدنا على مدى عقود على التفاعل الآني مع الأحداث، وبحسب مدى سخونتها وخسائر العدو والمجازر والشهداء والدمار تكون درجة التفاعل، وهو سرعان ما يخبو مع توقف الحدث أو اتخاذه نسقًا مستمرًا معتادًا "رتيبًا". إذ تضعف تدريجيًا المظاهرات والفعاليات وحملات جمع التبرعات وحملات المقاطعة… حتى تتوقف تمامًا.
وربما كان ذلك طبيعة بشرية، خصوصًا مع وجود أنظمة عربية وإسلامية فاسدة ومستبدة، يهمها صرف انتباه جماهيرها عن هكذا معارك وانتفاضات وأحداث، لأنها تكشف وتفضح عورات هذه الأنظمة وضعفها وخذلانها وتقصيرها، وتكون عنصر تثوير للشعوب ضد أنظمتها العاجزة أو المتواطئة.
وفي المقابل، فإن الكيان الصهيوني وحلفاءه يعملون بشكل منهجي متواصل، وضمن رؤية محددة تلقى دعمًا غربيًا عالميًا لإغلاق الملف الفلسطيني، وإفراغ انتصارات المقاومة ومنجزاتها من محتواها، وتشويه نماذج البطولة والتضحية، وتحميل المقاومة مسؤولية معاناة الشعب وظروف القهر والدمار تحت الاحتلال، مع المراهنة على ضعف ذاكرة الشعوب، والمراهنة على "منظومات التفاهة" السائدة في عالمنا العربي والإسلامي.
لقد تكررت ظاهرة "الموسمية" والتعود في وسط الأمة على مدى عشرات السنوات، فقد حدث ذلك في الانتفاضة المباركة 1987-1993، وفي انتفاضة الأقصى 2000-2005، وتكرر ذلك بعد حروب غزة الأربعة 2008-2009، و2012، و2014، و2021.
وعلى سبيل المثال، فقد كانت حملات مقاطعة البضائع الأمريكية هائلة وعظيمة النجاح في انتفاضة الأقصى، لكن سرعان ما عاد الناس إلى عاداتهم الاستهلاكية القديمة. وكذلك، كان التفاعل العربي والإسلامي والعالمي هائلًا مع معركة "سيف القدس" 2021، وكسب الفلسطينيون المعركة الإعلامية بشكل ساحق في أوروبا وأمريكا، وتراجعت نسبة التأييد للكيان الإسرائيلي إلى نسب غير مسبوقة.
غير أن الجانب الإسرائيلي عاد بعد المعركة لتسويق نفسه عالميًا ولاستئناف التطبيع، وقام بإجراءات أشد خطورة في القدس والأقصى من تلك الأسباب التي أدت للمعركة، وهو ما كان سببًا رئيسيًا لمعركة "طوفان الأقصى".
وإذا كان هناك إجماع على أن معركة "طوفان الأقصى" كانت حدثًا مفصليًا غير مسبوق في التاريخ الفلسطيني، فإن طول أمد المعركة، والخشية من "التعود" والرجوع للحياة السابقة المعتادة يبقى أمرًا قوي الاحتمال لقطاعات كبيرة من الناس.
وتكمن خطورة ذلك في تراجع مظاهر الدعم الشعبي والرسمي المالي والتعبوي والإعلامي والسياسي، وتراجع مجرد متابعة أخبار المعركة ومجازر الاحتلال، وتراجع الأجواء الشعبية الضاغطة على الاحتلال. في الوقت الذي يتابع فيه العدو عدوانه مع حلفائه بوتيرة عالية مستمرة، وبمنهجية منظمة ومُهدَّفة، سعيًا للاستفراد بالمقاومة وضربها.
وعلى سبيل المثال، فإن شهداء معركة "سيف القدس" طيلة أيامها كان 260 شهيدًا، بينما زادت وتيرة الاستشهاد اليومي في "طوفان الأقصى" في بعض الفترات عن 700 أو 800 شهيد.
وفي الوقت الذي هدأت فيه معظم الفعاليات المساندة للمعركة في عالمنا العربي والإسلامي، وتراجعت التبرعات المالية وحملات التعبئة، ما زال يستشهد كل يوم نحو مائة شهيد في قطاع غزة، وما زال أهل غزة، وخصوصًا شمالها، يتعرضون لمجاعة غير مسبوقة، وما زالت منطقة رفح، حيث يتكدس نحو مليون و400 ألف فلسطيني، معرضين في أي لحظة لمجازر بشعة، وحملة تهجير قسري دموي خارج القطاع.
وثمة إدراك خاطئ لفكرة "القيام بالواجب" أو "الاستطاعة"، إذ ينتشر بين الكثيرين في عالمنا أن مجرد الدعاء أو الخروج في مظاهرة في أحد الأيام أو التبرع بمبلغ محدد في وقت ما، هو الواجب المطلوب وفيه الكفاية، وأنه "عمل اللي عليه"!!.
بينما يرى العلماء أن مفهوم الاستطاعة "وأعدوا لهم ما استطعتم"، ومفهوم بذل الوسع "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها"، يقتضي في حال فرض العين (المطلوب من كل مسلم في حالة فلسطين) استنفاد الجهد وكافة الإمكانات بشكل مستمر إلى أن يتم النصر والتحرير، وأننا سنحاسب على كل شيء كنا نستطيع عمله ولم نعمله.
إن حالة التراخي والتعود تذكرنا بتحذير الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الذي كان يستعيذ بالله من "جلد الفاجر وعجز الثقة".
رفع السقف
في بيئات أمتنا، يصعب ترجمة فكرة "تحمل المسؤولية" تجاه فلسطين، خصوصًا أن المقاومة في فلسطين قطعت شوطًا كبيرًا في مسار "ذات الشوكة" أو المقاومة المسلحة، بينما تركن بيئاتنا العربية والإسلامية إلى "غير ذات الشوكة".
ولم تُكيّف التيارات الإسلامية والقومية والوطنية نفسها على ذلك أيضًا، وأصبح سقف مشاركة معظمها لا يتعدى العمل السياسي الاحتجاجي والعمل الخيري والتعبوي، والتحرك السلمي الناعم، الذي يسهل ضبطه وقمعه من الأنظمة.
بينما يستطيع المشروع الصهيوني أن يجند تحالفات عالمية لنصرته عسكريًا وأمنيًا، كما يستطيع استجلاب المتطوعين الصهاينة وحتى المرتزقة من كل أماكن العالم.
ولذلك، فإن نداءات المقاومة الفلسطينية لهذه الحركات بالانخراط في معركة التحرير لا تجد أرضية صلبة للاستجابة والانطلاق بشكل فعال، خصوصًا بعد أن جرى ضرب هذه الحركات وتهميشها ومطاردة ناشطيها خلال الموجة المضادة لـ"الربيع العربي".
ولم يبق سوى المشاركة ضمن "قواعد اشتباك" محددة لـ"محور المقاومة" المدعوم من إيران، نظرًا لنفوذه القوي أو سيطرته في عدد من الدول كلبنان والعراق واليمن.
وكانت مشاركة كتائب "القسام" وقوات "الفجر" التابعة للجماعة الإسلامية، في لبنان حالة معبرة، ولكن محدودة التأثير، قياسًا بالدور المأمول.
ليس المطلوب بالضرورة أن تتحول الحركات والتيارات إلى العمل المسلح مباشرة، فلكل بلد ظروفه وأولوياته وقدراته وإمكاناته، غير أن هذا لا يمنع من محاولة رفع السقف، خصوصًا في البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين، بما يتناسب مع خطورة المشروع الصهيوني على المنطقة وضرورة مواجهته، ولا يمنع من نشر ثقافة الجهاد والتضحية وتجهيز النفس للجهاد، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه "من مات ولم يغزُ ولم يُحدِّث نفسه بالغَزْو مات على شعبة من النفاق"، كما لا يمنع من المشاركة حيثما أمكن للقادرين بالوسائل المتاحة.
من القُطرية إلى الأمة
تظل عقلية الدولة القُطرية والانكفاء المحلي، وما أحدثته من أثر سلبي تجاه القضايا الكبرى للأمة، إحدى أكبر العوائق في نصرة فلسطين بالشكل الصحيح. ولذلك تضطرب المفاهيم الإسلامية، والمعاني المرتبطة بهوية الأمة، وفقه الأولويات، وفقه المصلحة، وفقه النوازل، عندما تصبح المحددات القُطرية المحلية متقدمة على القضايا الكبرى.
وتحدث ضبابية وفقدان بوصلة في كيفية تنزيل الرؤية الإسلامية (أو حتى الرؤية القومية) على بيئات غارقة في حساباتها وأولوياتها القُطرية.
والخطير في الأمر، أن المنكفئين على حساباتهم المحلية الداخلية، لا يدركون أو لا يريدون أن يدركوا أن المشروع الصهيوني لا يستهدف الفلسطينيين وحدهم، وإنما يستهدفهم جميعًا، وهو ما ثبت طوال 76 عامًا من قيام "إسرائيل"، إذ لا نهضة ولا وحدة ولا قوة للمنطقة ما دام هذا الكيان قائمًا، لأن شرط بقائه مرتبط بضعف ما حوله، وشرط نهضة ما حوله (خصوصًا البيئة الإستراتيجية) مرتبط بإزالته.
ولأن فلسطين لن تحرر من داخلها، بالرغم من الدور الجوهري والمحوري لشعب فلسطين في الداخل في الصمود والمقاومة ومشاغلة العدو، فلا بد من الانتقال من القُطرية إلى الأمة في مشروع التحرير، ولا بد من مشروع نهضوي وحدوي موازٍ ومتكامل مع المقاومة الفلسطينية، يستجمع عناصر القوة ويرتقي إلى مستوى التحدي مع المشروع الصهيوني الغربي.
وإذا كان المشروع الصهيوني يستهدف الأمة جمعاء، فلا بد أن تكون الاستجابة على مستوى الأمة، وإذا كان المشروع الصهيوني عالميًا فلا يمكن أن يكون مشروع التحرير قُطريًا، ومن بيئة تعيش تحت الاحتلال. ولذلك، يصبح الانتقال من القُطرية إلى الأمة شرطًا أساسيًا من شروط التحرير المنشود.
وأخيرًا، فليس السؤال المتعلق بتأثير "طوفان الأقصى" على الأمة مرتبطًا فقط بالزلزال الذي أحدثه في ذلك اليوم المشهود، ليتحول إلى ذكرى جميلة وأثر عابر، وإنما بثلاثة مستويات أساسية؛ أولها مدى عمقه وتأثيره في الوجدان الجمعي للأمة، وثانيها مدى اتساع أثره في الأوساط الشعبية والجماهيرية وقطاعاتها المختلفة، وثالثها مدى تحوله إلى حالة مستمرة مستدامة في منظومات البناء النفسي والفكري، والممارسات الحياتية، والمنظومات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية… وغيرها.
وهنا لا بد من "مأسسة التأثير"، وترسيخه كثقافة راسخة، وتربية قويمة، ومنهج حياة شامل.
